سورة الغاشية - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الغاشية)


        


{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1)}
هَلْ بمعنى قد، كقوله: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ} [الإنسان: 1]، قاله قطرب. أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها، قاله أكثر المفسرين.
وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: الْغاشِيَةِ: النار تغشى وجوه الكفار، ورواه أبو صالح عن ابن عباس، ودليله قوله تعالى: {وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50].
وقيل: تغشى الخلق.
وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث، لأنها تغشى الخلائق.
وقيل: الْغاشِيَةِ أهل النار يغشونها، ويقتحمون فيها.
وقيل: معنى هَلْ أَتاكَ أي هذا لم يكن من علمك، ولا من علم قومك. قال ابن عباس: لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور ها هنا.
وقيل: إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله، ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبي.


{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3)}
قال ابن عباس: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة. خاشِعَةٌ قال سفيان: أي ذليلة بالعذاب. وكل متضائل ساكن خاشع. يقال: خشع في صلاته: إذا تذلل ونكس رأسه. وخشع الصوت: خفي، قال الله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ} [طه: 108]. والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
وقال قتادة وابن زيد: خاشِعَةٌ أي في النار. والمراد وجوه الكفار كلهم، قاله يحيى بن سلام.
وقيل: أراد وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس. ثم قال: {عامِلَةٌ ناصِبَةٌ} فهذا في الدنيا، لان الآخرة ليست دار عمل. فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشِعَةٌ في الآخرة. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملا. ويقال للسحاب إذا دام برقه: قد عمل يعمل عملا. وذا سحاب عمل. قال الهذلي:
حتى شآها كليل موهنا عمل *** باتت طرابا وبات الليل لم ينم
ناصِبَةٌ أي تعبه. يقال: نصب بالكسر ينصب نصبا: إذا تعب، ونصبا أيضا، وأنصبه غيره. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هم الذين انصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله عز وجل، وعلى الكفر، مثل عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصا له.
وقال سعيد عن قتادة: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله عز وجل، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثقال، وحمل الاغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقال الكلبي: يجرون على وجوههم في النار. وعنه وعن غيره: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب، بمعالجة السلاسل والاغلال والخوض في النار، كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقائها في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها، إلى غير ذلك من عذابها. وقاله ابن عباس. وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد، ورواها عبيد عن شبل. عن ابن كثير {ناصبة} بالنصب على الحال.
وقيل: على الذم. الباقون بالرفع على الصفة أو على إضمار مبتدأ، فيوقف على خاشِعَةٌ. ومن جعل المعنى في الآخرة، جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن وُجُوهٌ، فلا يوقف على خاشِعَةٌ.
وقيل: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة. وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، خاشعة. قال عكرمة والسدي: عملت في الدنيا بالمعاصي.
وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان أصحاب الصوامع، وقاله ابن عباس. وقد تقدم في رواية الضحاك عنه.
وروى عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه،- وقرأ قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ}. قال الكسائي: التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سيئ الحال، مثل المتقحل.
وقال أبو عمرو: التقهل: شكوى الحاجة. وأنشد:
لعوا إذا لاقيته تقهلا ***
والقهل: كفران الإحسان. وقد قهل يقهل قهلا: إذا أثنى ثناء قبيحا. وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه. وانقهل ضعف وسقط، قاله الجوهري. وعن علي رضي الله عنه أنهم أهل حروراء، يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية...» الحديث.


{تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)}
أي يصيبها صلاؤها وحرها. حامِيَةً شديدة الحر، أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة. ومنه حمي النهار بالكسر، وحمي التنور حميا فيهما، أي اشتد حره.
وحكى الكسائي: اشتد حمي الشمس وحموها: بمعنى. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب {تصلى} بضم التاء. الباقون بفتحها. وقرئ: {تصلى} بالتشديد. وقد تقدم القول فيها في {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]. الماوردي: فإن قيل فما معنى وصفها بالحمى، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل: قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه: أحدها- أن المراد بذلك أنها دائمة الحمي، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.
الثاني- أن المراد بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه. ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، أو ترام مماستها، كما يحمي الأسد عرينه، ومثله قول النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له *** وتتقي صولة المستأسد الحامي
الرابع- أنها حامية حمى غيظ وغضب، مبالغة في شدة الانتقام. ولم يرد حمى جرم وذات، كما يقال: قد حمى فلان: إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام. وقد بين الله تعالى بقوله هذا المعنى فقال: {تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8].

1 | 2 | 3 | 4